لينوس كارل باولنغ
من الصعب الحديث عن لينوس باولنغ بإيجاز، إنه كيميائي كبير حقق إنجازات كثيرة في مجالات علمية واسعة ومختلفة، كان باولنغ معروفاً لدى عامة الناس في أمريكا كما كان معروفاً للمجتمع العلمي في العالم. وهو الشخص الوحيد الذي حصل على جائزتي نوبل بمفرده دون مشاركتها مع شخص آخر، اﻷولى في الكيمياء (1954) والثانية في السلام (1962).
ولد لينوس كارل باولنغ في بورتلاند أوريكون، في الثامن والعشرين من شهر شباط سنة 1901، تلقى تعليمه اﻷولي في أوريكون، ونال شهادة البكلوريوس في الهندسة الكيميائية سنة 1922 من كلية أوريكون الزراعية في كورفاليس (جامعة ولاية أوريكون حالياً). نال شهادة الدكتوراة في الكيمياء والفيزياء الرياضية سنة 1925 من معهد كالفورنيا للتكنولوجيا.
اكتشافات مهمة:
كانت العقود السبعة في مسيرته العلمية حافلة بالاكتشافات المهمة في مجالات الكيمياء المختلفة، الفيزيائية والتركيبية والتحليلية واللاعضوية والعضوية والحياتية، وقد استخدم باولنغ الفيزياء النظرية وعلى وجه الخصوص نظرية الكم وميكانيك الكم في أبحاثه حول الذرة وتركيب الجزيئات وطبيعة الأواصر فيما بينها.
كان لباولنغ إسهامات كبيرة في علم المعادن وذلك بدراسة البنية الذرية والتآصر بين الفلزات والمعادن، ونشر مع زملائه البنى التركيبية للمئات من المركبات اللاعضوية.
وفي المجال الطبي كان له اكتشافات مهمة في اﻷمراض الجينية، وعلم الدم والمناعة ووظائف الدماغ والطب النفسي، والتطور الجزيئي، والعلاج الغذائي، والتكنولوجيا التشخيصية، وعلم اﻷوبئة، والطب اﻷحيائي.
قواعد باولنغ:
تمكن باولنغ وبواسطة ميكانيك الكم من شرح ظاهرة التآصر نظرياً وبطريقة أفضل من ذي قبل، وبدأ بوضع تعميمات حول الترتيب الذري في البلورات ذات التآصر اﻷيوني، والتي ينتقل فيها اﻹلكترون ذو الشحنة السالبة والذي يدور حول النواة ذات الشحنة الموجبة، من ذرة إلى أخرى.
الكهروسالبية، التهجين، الرنين:
اكتشف باولنغ أنه في العديد من الحالات يمكن تعيين نوع التآصر (سواء أكان أيونياً أم تساهمياً) من الخواص المغناطيسية للمادة.
كذلك وضع باولنغ مقياساً لكهروسالبية العناصر لاستخدامه في اﻷواصر ذات الصفة الوسطية (أي أنها أيونية وتساهمية)، فكلما كان الفرق في الكهروسالبية بين ذرتين أقل، كان صفة اﻵصرة بينهما أقرب إلى الصفة التساهمية، ولتفسير اﻵصرة التساهمية قدم باولنغ بالاستناد إلى ميكانيك الكم مفهومين أساسين هما: التهجين Hybridization، والرنين Resonance.
الطب والصحة:
كان لباولنغ اكتشافات مهمة أيضاً في المجال الطبي، فقد درس سنة 1934 الخواص المغناطيسية للهيموغلوبين، ودرس بعدها دور اﻷجسام المضادة والمستضدات في الاستجابة المناعية، وهي أحد جوانب ظاهرة التخصصية في التفاعلات الكيميائية الحيوية.
اقترح سنة 1940 ولأول مرة أن هذه التخصصية تتحقق عن طريق التكامل الجزيئي، أي أن الجزيئة تكون مكملة للجزيئة اﻷخرى، واعتبر هذا اﻷمر سر الحياة.
وافترض سنة 1946 أن الجين يتألف من شريطين مكملين لبعضهما البعض، وقد سبق ذلك اكتشاف كريك وواتسون لبنية الDNA بسبع سنوات.
اﻷمراض الجزيئية:
وضع باولنغ هذه المصطلح سنة 1945 بعد أن سمع أحد اﻷطباء وهو يتكلم عن مرض فقر الدم المنجلي. تكهن باولنغ أن هذا المرض ناتج من خلل في الهيموغلوبين الموجود في كريات الدم الحمراء. وبعد ثلاث سنوات من البحث الدؤوب، تمكن باولنغ وزميله الدكتور هارفي إيتانو من تشخيص سبب هذا المرض والذي كان جزيئياً فعلاً، وهو خلل في تركيب جزيئة الهيموغلوبين ينتقل عبر الجينات.
وقد أطلقت تسمية باولنغ ﻷول مرض جزيئي شرارة البحث العلمي في هذا المجال للبحث عن أمراض جزيئية أخرى، وأصبحت الفكرة الجديدة مهمة جداً وفي زمن قياسي، لتصبح فيما بعد محور دراسات الجينوم البشري.
الحرب العالمية الثانية:
فتح باولنغ أبواب مختبره للحكومة الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية كمستشار بحثي، ابتكر أنواعاً من المتفجرات، واخترع صواريخ ذاتية الدفع للبحرية الأمريكية. كذلك اخترع مقياساً لمستوى اﻷكسجين في الغواصات والطائرات، وقد استخدم هذا المقياس فيما بعد لضمان توفير مستويات كافية من الأكسجين للأطفال الخدج، وللذين تجرى لهم عمليات جراحية وهم مصابون بالربو.
شارك باولنغ أيضاً في صناعة مصل دم اصطناعي يستخدم في حالات نقل الدم الطارئة في ساحة المعركة.
اللولب ألفا
عندما كان محاضراً زائراً في جامعة أكسفورد سنة 1948، خطرت لباولنغ فكرة بخصوص البنية اﻷساسية للبروتينات. عمل على ورقة قام بطيها في مواقع معينة حددها بواسطة بعض الاعتبارات النظرية التي يمكن من خلالها معرفة المواقع التي يمكن أن تنحني السلسلة فيها. وجد باولنغ أن سلسلة البوليببتيد والمتكونة من سلسلة من اﻷحماض اﻷمينية، يمكن أن تلتف حول بنية لولبية معينة، والتي سماها بلولب ألفا alpha helix، وقد استند في ذلك إلى المعلومات النظرية للأواصر الكيميائية إضافة إلى أدلة استقاها من حيود اﻷشعة السينية لبعض البروتينات الليفية، كذلك اقترح مفهوماً مرافقاً يرjبط ببنية (الصفائح المطوية)، وقد تمكن باولنغ من إثبات صحة هاتين الفكرتين.
وبعد بضع سنوات أعلن كريك وواتسون سنة 1953 عن اكتشافهما لبنية ال DNA، وهي عبارة عن شريطين لولبيين أحدهما مكمل للآخر.
جائزة نوبل في الكيمياء
حصل لينوس باولنغ على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1954 ﻷبحاثه القيمة في دراسة طبيعة التآصر الكيميائي والبنى التركيبية للجزيئات والبلورات، وتطبيقه للمبادئ التي أنتجتها هذه الدراسة في تشخيص بنية البروتينات وبالخصوص اللولب ألفا.
ناشط في قضايا السلام وجائزة نوبل في السلام
كان لباولنغ نشاط كبير إبان الحرب الباردة، فقد كانت له العديد من اللقاءات والمناظرات المتلفزة يدعو فيها إلى إيقاف التجارب التي كانت تجرى على اﻷسلحة النووية، وكان اسمه يتردد كثيراً في وسائل اﻹعلام، وخاصة عندما كتب عريضة قُدّمت إلى اﻷمم المتحدة بعد أن وقع عليها ما يقارب 9000 عالم أمريكي وما يقارب 3000 عالم حول العالم. كان باولنغ يستخدم اﻷرقام واﻹحصائيات والبيانات العلمية ﻹثبات وجهة نظره والتي تدعو إلى إيقاف التجارب على السلاح النووي، وفي سنة 1962 حصل لينوس باولنغ على جائزة نوبل في السلام لقاء جهوده في حضر تجارب اﻷسلحة النووية.
السنوات اﻷخيرة
على الرغم من التقدير الكبير الذي ناله باولنغ في السنوات اﻷخيرة من حياته نظير إنجازاته السابقة، إلا أن أعماله اللاحقة واجهت الكثير من التشكيك والجدل، فقد رفض الفيزيائيون النموذج العنقودي الذي اقترحه للنواة، كما نال تفسيره للبلورات الخماسية المكتشفة حديثاً حينها القليل من الدعم، كما رفض اﻷطباء فكرته حول الفيتامين C.
في السنوات اﻷخيرة من حياته توقف باولنغ عن السفر وحضور المؤتمرات وإلقاء المحاضرات حول العالم، وقسم وقته بشكل عام بين مزرعته التي كان ينجز فيها أعماله النظرية وكتاباته للعامة، وبين شقته في ستانفورد والتي كانت قريبة من المعهد الذي أسسه حيث كان يشرف على الأبحاث التي كان يجريها طلاب المعهد.
كان باولنغ وزوجته مقتنعين بأن للفيتامين C تأثيراً وقائياً للزكام والسرطان والشيخوخة، وعلى الرغم من تناولهما لجرعات كبيرة جداً من الفيتامين، إلا أن مرض السرطان كان السبب في وفاتهما، فقد أودى سرطان المعدة بحياة زوجته سنة 1981، وكان سرطان البروستات سبب وفاته سنة 1994.
اعتُبر باولنغ أحد أفضل علماء القرن العشرين ووصفه زملاؤه بأنه الكيميائي اﻷكثر تأثيراً بعد لافوازييه مؤسس الكيمياء الحديثة في القرن الثامن عشر.
نشر باولنغ ما يقارب 1000 بحث وكتاب، وكان ثلثا هذا العدد في المجال العلمي، واعتبر كتابه (طبيعة الآصرة الكيميائية) (The Nature of the Chemical Bond) أكثر الكتب العلمية تأثيراً في القرن العشرين.