هواتف ذكية: كيمياء ذكية
هل بمقدورك أن تتحمل يوماً بدون هاتفك النقال؟ 84% من الأمريكيين لا يستطيعون ذلك، بحسب استطلاع أجرته مجلة التايمز مؤخراً. أما قبل 20 عاماً فقد كان امتلاك هاتف جوال أمراً ليس باليسير، ولكن الهواتف النقالة تحولت إلى شيء أكبر وأفضل، ألا وهو الهواتف الذكية. في العام الماضي بيع أكثر من بليون هاتف خلوي حول العالم.
لنتخيل أنك تريد أن تقوم بالمهام التي يؤديها هاتفك الذكي الآن ولكن في خمسينيات القرن الماضي! ستحتاج حينئذ إلى عدد كبير من الكمبيوترات والتي ستحتل مساحة كبيرة في مبنى كبير، بل إنّ الهواتف الذكية ذات المواصفات العادية في يومنا هذا أفضل من الحاسوب الذي استخدمته وكالة ناسا لإرسال الإنسان إلى القمر. أما أنت فبمقدورك الاتصال بالانترنت والاستماع إلى الموسيقى وإرسال رسالة بالبريد الإلكتروني إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية باستخدام جهاز لا يتجاوز حجمه راحة يدك، ولكن، لا يمكن لأي من هذا أن يحصل لولا الكيمياء!
تذكر إذن في المرة القادمة وعند استخدامك لهاتفك النقال، أنّ الكيمياء هي التي تعمل.
كيمياء الهواتف الذكية
من المؤكد أنك تتسائل الآن: ماعلاقة الكيمياء بهاتفي الذكي؟ الجواب: ألق نظرة على الجدول الدوري! من أصل 83 عنصراً مستقراً (غير مشع) 70 منها يمكن إيجاده في الهواتف الذكية! أي ما نسبته 84% من العناصر المستقرة.
إنّ “ذكاء” الهواتف الذكية منشأه الفلزات، فالهاتف الذكي العادي قد يحتوي على ما يصل إلى 62 نوعاً مختلفاً من الفلزات، وتتضمن الفلزات الترابية النادرة (Rare Earth Metals) مثل السكانديوم (Sc) والإتيريوم (Y)، والعناصر ذات العدد الذري 57 إلى 71 والتي تعرف باللانثانات، لأنها تبدأ بعنصر اللانثانيوم (La).
يحتوي الآيفون على ثمانية فلزات ترابية نادرة مختلفة، وإذا تفحصت عدداً من الهواتف الذكية من شركات مختلفة، ستجد ما يقارب 16 من أصل 17 فلز ترابي نادر.
الألوان التي تراها على شاشة هاتفك الذكي، مثل الأحمر المشرق والأزرق والأخضر، ناتجة من الفلزات الترابية النادرة، والتي تستخدم في الدوائر الكهربائية للهاتف، وكذلك في السماعات، يكفي أن نقول أنه لولا عنصري النيوديميوم (Nd) والديسبروسيوم (Dy)، لن يتمكن هاتفك الذكي من الاهتزاز!
لا يقتصر استخدام الفلزات الترابية النادرة على الهواتف الذكية، بل يتسع النطاق ليشمل أجهزة أخرى مثل التلفاز، والكومبيوتر، والليزر، والأسلحة، وحساسات الكاميرات، ومصابيح الفلورة، والعوامل المحفزة. هذه الفلزات مهمة للغاية في الإلكترونيات والاتصالات والصناعات الدفاعية، لذا يطلق عليها تسمية (فلزات التكنولوجيا).
ليس من الضروري أن تكون الفلزات الترابية النادرة “نادرة”، ولكنها غالباً ما تكون مبعثرة على سطح الأرض، أي أنك لن تجد تراكيز عالية من هذه الفلزات في مكان واحد، وهذا يجعل استخراج هذه الفلزات أمراً صعباً ومكلفاً، وتعد هذه الفلزات مصدراً محدوداً، ولا وجود لأي بدائل معروفة للعديد من هذه العناصر، وأحد أكبر التحديات التي تواجه صناعة الهواتف الذكية هو إيجاد بدائل ملائمة للكثير من هذه العناصر.
شاشة الهاتف الذكي
إنّ أول وأكثر المزايا أهمية والتي يبحث عنها الناس عند شراء الهاتف الذكي هي الشاشة، فهي منفذك الوحيد إلى استخدام الجهاز ورؤية محتوياته، وإذا سقط جهازك من يدك بدون أن تتأذى شاشته، فمن المؤكد أنك قد خرجت من صدمة قلبية ونفسية كبيرة بأمان!
يراعى في صناعة شاشات الهواتف الذكية أن تكون صلبة للغاية، وهذه الصلابة في الواقع هي نتيجة لحادثة وقعت عن طريق الصدفة، ففي سنة 1952 كان كيميائي في معامل (Corning Glass Works) يعمل على تسخين عينة من الزجاج في الفرن إلى درجة 600 مئوية، ولكن أصيب جهاز قياس الحرارة بخلل ما أدى إلى ترك الزجاج في الفرن في درجة حرارة 900 مئوية. بعد أن تنبه الكيميائي لذلك، فتح باب الفرن، وانتابه السرور ـ والدهشة ـ لأنّ عينة الزجاج لم تذب وتتحول إلى مادة لزجة ولم تفسد الفرن، وبعد أن أخرجها من الفرن أسقطها أرضاً (عن طريق الصدفة أيضاً) ولكن بدلاً من أن تنكسر، ارتدت الزجاجة عن الأرض، كان هذا ميلاد أول زجاج سيراميكي اصطناعي في العالم، مادة تمتلك خواص الزجاج والسيراميك معاً.
الزجاج عبارة عن مادة صلبة غير متبلورة لأنها تفتقر إلى البنية البلورية، حيث تترتب الجزيئات بشكل شبيه بالسوائل، إلا أنها متجمدة في مكانها، ولعدم امتلاك الزجاج لسطوح من الذرات التي يمكن أن تنزلق على بعضها البعض، فإنه غير قادر على تحمل الضغط، حيث يؤدي الضغط الزائد لتكون الشقوق، وتنفصل الجزيئات على سطح الشق عن بعض البعض، وكلما اتسع الشق، زادت شدة الضغط، وتكسرت المزيد من الأواصر، ويتسع الشق أكثر فأكثر إلى أن يتحطم الزجاج.
أما السيراميك فيميل لأن يكون بلورياً، ويمتاز بوجود أواصر أيونية بين الأيونات الموجبة والسالبة، وقد يحتوي أيضاً على أواصر تساهمية، وعند تكوين البلورات، تجعل قوى التجاذب القوية بين الأيونات ذات الشحنة المتعاكسة في سطح الأيونات عملية انزلاق سطح على آخر أمراً صعباً، لذا يكون السيراميك هشاً، حيث يقاوم الضغط، ولكنه ينكسر عند ثنيه.
عند مزج خواص كل من الزجاج والسيراميك نحصل على مادة أقوى وأصلب من كليهما، ويمكن الحصول على الزجاج السيراميكي عن طريق التسخين الشديد للزجاج لكي يتحول جزء من بنيته إلى الشكل البلوري، وتكون نسبة الجزء البلوري 50% على الأقل، وقد تصل في بعض الأحيان إلى 95%.
دعت هذه الخواص الفريدة للزجاج السيراميكي شركة Corning Glass للقيام ببحوث مكثفة لغرض تطوير هذه المادة، ولإنتاج زجاج سيراميكي شفاف وصلب في نفس الوقت، وفي سنة 1962 طورت هذه الشركة نوعاً من قوياً جداً من الزجاج المقوى كيميائياً، لم يكن له مثيل في ذلك الوقت. وقد أخذ هذا الزجاج طريقه إلى الهواتف النقالة في النهاية، وقد انعكست قوة هذا الزجاج على اسمه، فأطلق عليه اسم Gorilla Glass.
أظهرت الفحوصات المختبرية أن زجاج غوريلا يمكنه أن يتحمل ضغطاً يصل إلى 100,000 بوند في البوصة المربعة، أي ما يقارب 6800 ضعف الضغط الجوي الطبيعي على سطح الأرض.
يتألف زجاج غوريلا من أكسيد السيليكون والألمنيوم (يسمى أيضاً بزجاج Aluminosilicate) بالإضالة إلى أيونات الصوديوم (Na).
لكن زجاج غوريلا يكتسب قوته الهائلة من خطوة واحدة أخيرة، حيث يقوّى الزجاج كيميائياً، عن طريق وضع الزجاج في حوض من أملاح البوتاسيوم المصهورة، وعادة ما يستخدم نترات البوتاسيوم KNO3 في درجة 300 مئوية. ونظراً لكون أيونات البوتاسيوم أكثر فعالية من أيونات الصوديوم، فإن الأولى تحل محل الأخيرة، ولما كانت ذرات البوتاسيوم أكبر حجماً من ذرات الصوديوم، فإنّ أيوناتهما تمتلك نفس الخاصية، أي أنّ أيونات البوتاسيوم أكبر من أيونات الصوديوم، لذا فإنّ الأولى ستشغل مساحة أكبر في الزجاج من أيونات الصوديوم.
ويؤدي حشر أيونات أكبر في مساحة كانت تشغلها أيونات أصغر، إلى ضغط الزجاج، ولتقريب الصورة نأخذ هذا المثال:
الرقم القياسي المسجل لأكثر عدد من الأشخاص داخل سيارة هو لسيارة البيتل من شركة فولكسواكن (وهي سيارة صغيرة جداً) وهو 25 شخصاً، ونظراً لحجم السيارة الصغير، فمن المحتمل أن يكون هؤلاء ذو أجسام صغيرة أيضاً، ولكن تخيل استبدال هؤلاء بـ 25 لاعب كرة قدم أمريكية كل منهم يزن ما يقارب 160 كغم، سنحتاج في هذه الحالة إلى كمية كبيرة من الضغط لحشر هؤلاء الرجال في هذه المساحة الصغيرة، وبنفس الطريقة، فإنّ أيونات البوتاسيوم الكبيرة تدفع بعضها بعضاً، ويؤدي هذا إلى ضغط الزجاج.
يمتلك الزجاج المضغوط قوة كبيرة، ونتيجة لهذه الضغط تخزن كمية كبيرة من الطاقة الكامنة المرنة في الزجاج، بشكل يشابه كثيراً للطاقة الكامنة المرنة التي يمكن أن نجدها في النابض المضغوط.
ماذا يوجد وراء شاشة اللمس
كما تعلم، فإنّ شاشة الهاتف ليست مجرد قطعة من الزجاج القوي، بل هي شاشة تستجيب للمستك أيضاً، أليست تسمى (شاشة اللمس)!؟
هنالك فئتان أساسيتان من شاشات اللمس، الأولى تسمى شاشات اللمس المقاومة Resistive Touchscreens وتستجيب لأي نوع من المواد، حيث تستجيب لقلم الرصاص كما تستجيب للإصبع، بل ويمكنك التفاعل مع الشاشة وأنت ترتدي القفازات في يديك. تستخدم هذه الشاشات في مكائن الصرف الآلي (ATM) وفي الأجهزة التي يستخدمها المحاسبون في المتاجر والمحلات.
يتألف هذا النوع من شاشات اللمس من طبقتين رقيقتين من مواد موصلة تحت سطح الزجاج. وعندما تقوم بالضغط على هذه الشاشة تتلامس الطبقتان، وتكتمل الدائرة الكهربائية، ويتغير التيار الكهربائي في نقطة التلامس. يتحسس البرنامج تغير التيار في تلك الإحداثيات، ويؤدي وظيفة ما ترتبط بذلك الموضع.
يعرف هذا النوع من الشاشات أيضاً بالشاشات الحساسة للضغط Pressure-Sensitive Screens، وتستجيب هذه الشاشات للضغط في مكان واحد، وإذا كان الضغط في مكانين مختلفين في نفس الوقت، فإنّ الشاشة لا تستجيب.
أما النوع الثاني من شاشات اللمس، والتي تستخدم اليوم في الهواتف الذكية، هي شاشات اللمس السعوية Capacitive Touchscreens، وهي ذات طبيعة كهربائية. (المتسعة هي أي أداة تقوم بخزن الكهرباء).
لا يمكن للزجاج أن يوصل الكهرباء، وعلى الرغم من احتواء الزجاج على الأيونات، إلا أنها محجوزة في مكانها، وهذا يمنع الكهرباء من التدفق خلال الزجاج. لذا يتوجب تغطية الزجاج بطبقة رقيقة شفافة من مادة موصلة للكهرباء، وعادة ما يستخدم أكسيد الإنديوم ـ القصدير (مزيج من الأكسجين O، الإنديوم In، والقصدير Sn بنسب معينة) والذي يوضع على شكل شرائط متقاطعة لتكون نمطاً شبكياً.
تعمل هذه الشبكة الموصلة عمل المتسعة، فتخزن شحنات كهربائية صغيرة جداً، وعندما تلمس الشاشة بإصبعك، تدخل كمية ضئيلة من هذه الشحنات إليه، كمية ضئيلة لا يمكنك أن تشعر بها، ولكنها كافية لتتحسسها الشاشة. عند دخول هذه الشحنات إلى إصبعك تسجل الشاشة انخفاضاً في الفولتية في ذلك الموضع ويتعامل البرنامج معه منتجاً الفعل المطلوب.
إنّ سبب دخول هذه الشحنات إلى إصبعك هو كون جلدك موصلاً للكهرباء، وذلك ناتج من المحلول الأيوني الذي يتكون على رؤوس أصابعك من الأملاح والرطوبة. إذن، يصبح جسدك جزءاً من الدائرة، حيث تتدفق كمية ضئيلة من الكهرباء إليه في كل مرة تستخدم في شاشة اللمس في هاتفك الذكي.
تتطور تكنولوجيا الهواتف الذكية بشكل مذهل، حيث يستخدم الهاتف الذكي اليوم لفحص سكر الدم، وضبط حرارة المنزل، وتشغيل السيارة. أما قبل عشرين عاماً، لم يكن أحد يتصور أنه وفي يوم من الأيام سنقوم بالتقاط صور أكثر باستخدام الهاتف الجوال من كاميرات التصوير.
بفضل الكيمياء والابتكار، أصبحت الإمكانات غير محدودة.