لنتعلّم من أخطاء غيرنا … كارثة بوبال
الزمان: الساعات الأولى من 3 كانون الأول عام 1984.
المكان: مصنع لمبيدات الآفات يقع جوار مدينة بوبال الهندية.
الحدث: انطلاق سُحب من الغازات القاتلة حطّت على مدينة بوبال ومحيطها.
النتيجة: مقتل الآلاف خلال الأيام الأولى من الكارثة وما زال الكثير يعاني إلى يومنا هذا.
تقول شركة يونيون كاربايد المالكة للمصنع أنّ فعلاً تخريبياً أدى إلى الكارثة ولكنّ الروايات الأخرى تبدو أكثر إقناعاً وسنعتمد عليها في سردنا للحادثة وأسبابها.
1 ■ غاز ايزوسيانات الميتيل MIC:
هو القاتل الأول في كارثة بوبال إذ يدخل كمركّب وسطي في إنتاج مركب الكارباريل (الكارباريل هو المكوّن الأهم في إحدى منتجات المبيدات الحشرية التي تصنعها شركة يونيون كاربايد).
تقوم الشركة بتخزين غاز MIC بشكله السائل في ثلاثة خزانات مطمورة جزئياً تحت الأرض وذلك نظراً لخطورته وسهوله تطايره. في ليلة الكارثة تفاعل غاز MIC
مع الماء في أجسام الضحايا مجبراً الدم على ملء الفراغات الصغيرة في الرئتين مما جعل التنفس مستحيلاً.
تم رصد العديد من الغازات الأخرى (كالفوسجين، أكاسيد النتروجين، الكلوروفورم وأحادي أوكسيد الكربون) في محيط المصنع بسبب سلسلة من التفاعلات بدأها غاز MIC. لم تعطي شركة يونيون كاربايد معلومات كافية عن ظروف تشغيل المصنع. في المحصلة لم يُعرف التركيب الدقيق لسحب الغازات التي انطلقت من المصنع ليلة الكارثة.
2 ■ ليلة الكارثة:
شمّ العمال رائحة غريبة فاتصلوا بمسؤول غرفة التحكّم الذي ذهب بدوره إلى مستودع المواد الكيميائية الأكثر تطايراً ولاحظ تسرّباً طفيفاً، لم تكن البارامترات الأساسية كالحرارة والضغط متغيّرة فلم يعطي المسؤول أهمية للأمر خاصة لأنه وبقية العمال اعتادوا على تلك التسربات الصغيرة.
عاود عمال المصنع الاتصال فأقلق ذلك مسؤول غرفة التحكم لأنه اعتاد على القراءات المغلوطة للمقاييس فأعاد قراءة مقاييس الضغط الموجودة في غرفة التحكم ولاحظ ارتفاعاً كبيراً في ضغط الخزان E610 الذي يحوي غاز MIC … هرع إلى المستودع وشاهد الخزان يهتز بقوة ودرجة حرارته مرتفعة جداً.
بدأ الغاز بالتسرّب من هذا الخزان إلى شبكة الأنابيب في المصنع، في هذه الأثناء بدأت محاولات تنفيذ إجراءات الطوارئ لإبطال مفعول الغاز ولكنها فشلت جميعاً.
وبسبب ارتفاع الضغط اندفع الغاز من شبكة الأنابيب إلى الجو عبر إحدى مداخن المصنع وتولّت الرياح مهمة تسيير هذه الغازات إلى مدينة بوبال القريبة جداً وغطّت السحب منطقة عرضها ثمانية كيلومترات وظلّت نحو سبعة ساعات قبل أن تتبدّد.
ما أن وصلت سحب الغازات إلى مدينة بوبال ومحيطها حتى بدأ السكان بالسعال والتقيؤ وأحس العديد منهم بحروق في عيونهم ناهيك عن أعراضٍ أخرى، اكتظت الشوارع بالسكان المذعورين ومات الكثير منهم على الفور. لم يقتصر الأمر على البشر إذ نفقت أعداد كبيرة من الحيوانات ولم تسلم النباتات من الأذى.
في الساعات الأولى من الكارثة كان تركيز غاز MIC أعلى قرب سطح الأرض لكونه أكثر كثافة من الهواء. ومما زاد الطين بلّة أن الأطباء في المشافي لم يعرفوا ماهيّة الغاز ولأيام عديدة ادّعى مسؤولو المصنع أنّ غاز MIC لا يسبّب أكثر من بعض الحكة في العيون!
تقول بعض الإحصاءات أنّ نحو 3800 شخصاً قُتلوا على الفور ووصل العدد إلى 8000 في الأيام القليلة التالية وإلى نحو 25000 في السنوات التالية.
انتقلت الأمراض إلى الجيل الثاني فالعديد من أبناء الناجين ولدوا وفيهم بعض العاهات. لم يقتصر الأمر على ذلك وإنما وصل إلى مياه الشرب التي لوثتها نفايات المصنع (راجع الفقرة 7).
3 ■ الماء هو من سبّب الكارثة!
أظهرت التحقيقات أنّ تفاعلاً كيميائياً بدأ بدخول الماء إلى أحد خزانات غاز MIC وازداد التفاعل عنفاً بوجود محفّزات كآثار الصدأ الآتية من المواسير.
على الرغم من أنّ غاز MIC يذوب في الماء بنسبة 10 غرامات منه في كل 100 مل من الماء عند درجة حرارة 15˚C إلا أن ذلك بعيد كل البعد عن حالتنا إذ دخلت كمية صغيرة نسبياً من الماء إلى كمية كبيرة من الغاز ولم تتبدّد الحرارة الناتجة عن المزج فبدأت سلسلة من التفاعلات الكارثية أدّت لازدياد الضغط والحرارة في الخزان.
ولكن كيف وصل الماء إلى الخزان المنكوب؟
ما كان الماء ليصل الخزان لولا سلسلة من الأخطاء نتج أهمها عن السياسة غير المسؤولة لتخفيض النفقات وعن غياب الصيانة الحقيقية من ناحية أخرى.
4 ■ سلسلة من الأخطاء أدّت لتسرّب الغاز من الخزان:
ما كانت الكارثة لتقع لو كانت خزانات غاز MIC الثلاثة معزولة تماماً، لتخفيض النفقات تم وصل هذه الخزانات بوحدة معالجة كيميائية تقع بجوارها.
عند انسداد الأنابيب يتم فتحها عادة بضخ الماء فيها ممّا يعني وصول هذا الماء إلى خزانات الغاز في حال تعطّل وسيلتي الحماية المخصّصتين لمنع ذلك.
في ليلة الحادثة قام العمال بفتح أحد الأنابيب بهذه الطريقة وهنا بدأت الكارثة فوسيلتي الحماية لا تعملان!
وسيلة الحماية الأولى عبارة عن سدادات انزلاقية (يتم تركيبها في الأنابيب) حيث تمنع الماء من الوصول إلى الخزانات، أظهرت التحقيقات أن السداد الانزلاقي الخاص بالخزان المنكوب لم يكن يعمل!
أما وسيلة الحماية الثانية فهي حقن غاز النتروجين في الخزانات لملء الفراغ داخلها، كشفت التحقيقات عن عيوب في نظام الحقن فوفقاً لأحد العمال لم ينجح الخزان المنكوب باحتواء الضغط منذ 20 يوماً بسبب خلل في أحد الصمامات.
نجح الماء بالوصول إلى الخزان المنكوب وبدأت حرارته بالارتفاع ولكن لماذا لم تعمل وحدة التبريد الخاصة بالخزانات؟ هنا تظهر مفاجأة جديدة فوحدة التبريد متوقفة منذ شهر حزيران في عام الكارثة نفسه بهدف تخفيض النفقات حيث تم إرسال الفريون الخاص بالتبريد إلى معامل أخرى.
وممّا زاد الأمور سوءاً أن مقاييس الضغط بحاجة لصيانة ممّا ضلّل مسؤول غرفة التحكم عند قراءتها أول مرّة. وبسبب عطل في صمام تصريف الضغط خرجت محتويات الخزان إلى الجو عبر إحدى المداخن.
5 ■ بعد أن تسرّب الغاز … لم تنجح إجراءات الطوارئ!
إجراء الطوارئ الأول كان تمرير الغاز عبر عمود خاص للغسيل بماءات الصوديوم (الذي يبطل مفعول غاز MIC) ولكنّ العمود لم يكن ليعمل وحتى لو نجح في العمل لما أمكنه من معالجة 42 طناً من الغاز فهو مخصص للكميات المتسرّبة الصغيرة.
أما إجراء الطوارئ الثاني فكان تشغيل برج الاحتراق فغاز MIC يحترق بسهولة. لم يكن البرج ليعمل بسبب اقتطاع جزءاً صدءاً من أحد أنابيبه. المؤسف في الأمر أنّ إصلاح الأنبوب لا يستغرق أكثر من ساعتين.
(ملاحظة: يقول أحد مسؤولي التشغيل السابقين في المصنع أنه حتى لو كان برج الاحتراق يعمل فلن يكفي التدفق الكبير للغاز).
وأخيراً حاول العمال تبديد الغاز المتسرّب من المدخنة برش الماء لكنهم فشلوا لأن أجهزة الرش لم تكن بالقوة المطلوبة فلم تبلغ ارتفاع المدخنة.
6 ■ ما العمل لتصريف كمية غاز MIC المتبقية؟
كما ذكرنا فإنّ الغاز تسرّب من أحد خزاناته الثلاثة.
يدّعي مسؤولو الشركة أنّ الغاز مخزّن بدقة غير أنّ شهادات العمال تقول عكس ذلك فالخزان المنكوب كان ممتلئاً حتى ثلاثة أرباعه (يجب ملئه بالنصف كحد أقصى) كما أن الخزانات الثلاثة تحوي غازاً (يجب ترك أحدها فارغاً كوسيلة أمان).
وقعت الكارثة وتسرّب نحو 42 طناً من أحد الخزانات وتبقى نحو 35 طناً في الخزانين الآخرين، فما العمل لتفادي وقوع كارثة جديدة؟
ما من طريقة سوى متابعة تعبئة المبيد الحشري SEVIN الذي يدخل غاز MIC كمركّب وسطي في إنتاجه. بدأ الإنتاج وسط إجراءات أمنية مشدّدة فالطوافات تحوم فوق المصنع ونُصبَت خيمة مبلّلة بالماء حول المصنع. نجح القائمون على الإنتاج بتصريف كمية غاز MIC المتبقية خلال سبعة أيام من الإنتاج. الجدير ذكره أنّ نقص مبيعات المبيد الحشري SEVIN كان وراء تراكم كميات تخزينية كبيرة من غاز MIC.
7 ■ كارثة جديدة … فنفايات المصنع وصلت إلى مياه الشرب!
لم تنته الكارثة بعد … فمنذ افتتاح المصنع عام 1969 وآلاف الأطنان من النفايات السامة لا تُعالج بشكل مناسب وتُطمر في أرض المصنع بدون عزل كافي. في عام 1977 قامت الشركة بإنشاء برك في جوار المصنع لتجميع النفايات السائلة حيث صمّمت لتتبخر منها النفايات اعتماداً على طاقة الشمس.
وقعت كارثة تسرّب الغاز عام 1984 وتوقّف الإنتاج في المصنع ولكن ….
على الرغم من إغلاق المصنع في وجه العموم فإنّ النفايات المطمورة لم تُعالج وتتسرّب تدريجياً إلى جوف الأرض. وظلّت الكثير من النفايات متروكة على أرضية المصنع عُرضة للرياح والأمطار.
أما في جوار المصنع فإنّ برك التبخير ظلّت مفتوحة لمن يريد أن يعبث بها دون إدراك لخطورتها، تطوف هذه البرك بمياه الأمطار فتلوّث الأرض المحيطة بها وقد نفقت الكثير من الماشية قبل كارثة تسرّب الغاز.
بعد خمسة سنوات من كارثة تسرّب الغاز، أجرت شركة يونيون كاربايد اختبارات سرية أفادت بعدم إمكانية شرب المياه التي تصلها نفايات المصنع من خلال التربة، لم تقم الشركة بإبلاغ الأمر للسلطات المعنية ولم تنظف البرك.
في المحصّلة وصلت النفايات إلى المياه الجوفية التي تغذي آلاف السكان. على سبيل المثال: أظهرت دراسة سويسرية أن تركيز الكلوروفورم أعلى بـ 3.5 مرات من الحد الذي تسمح منظمة الصحة العالمية بينما تركيز رباعي كلوريد الكربون أعلى بـ 2400 مرة من الحد الذي تسمح به المنظمة.
8 ■ العدالة المفقودة:
تزعم شركة يونيون كاربايد أن كارثة تسرّب الغاز نجمت عن عمل تخريبي قام به أحد العمال المستاءين ولا وجود لأي تقصير من إدارة المصنع.
المؤسف أن الشركة تمارس معاييراً مختلفة في تعاملها مع مصانعها، ففي مصنع آخر شبيه بمصنع بوبال ولكنه يقع في الولايات المتحدة الأميركية فإن مستوى الأمن الصناعي أكبر وتقوم الشركة بتدريب سكان الجوار على إجراءات الطوارئ.
تختلف أعداد الضحايا من منظمة لأخرى وشكّل ذلك خلافاً في المحاكم التي تعتمد أرقام الحكومة الهندية، لسنين طويلة زعمت الحكومة أن عدد الضحايا بلغ 5295 قتيلاً ونحو 5000 متأذياً بينما يؤكد بعض الحقوقيون أنّ عدد القتلى بلغ 25000 شخصاً إضافة لنحو نصف مليون متأذي.
في عام 1989 وافقت شركة يونيون كاربايد على دفع تعويضات بمقدار 470 مليون دولار ولاقى انخفاض الرقم احتجاجاً كبيراً فاستمرت الدعاوى في المحاكم واتُهمَت الحكومة الهندية بالتواطؤ مع الشركة الأميركية.
في عام 2001 قامت شركة Dow للكيماويات بشراء شركة يونيون كاربايد المالكة للمصنع.
وفي عام 2014 وعدت الحكومة الهندية بمراجعة أعداد ضحايا تسرّب الغاز وفقاً للمعطيات الطبية والعلمية ولكن هذه التعويضات لا تشمل ضحايا تلوّث المياه (على الرغم من صعوبة التفريق بين الضحايا). ما زال العمل الشاق ينتظر ضحايا الكارثتين قبل أن ينالوا تعويضاتهم العادلة.
9 ■ ماذا نتعلّم من كارثة بوبال؟
- ضبط النفقات أمر هام بالنسبة للمستثمرين ولكن ليس على حساب السلامة العامة.
- الصيانة الدورية أمر لا يمكن المساومة عليه.
- الشفافية في التعامل والإبلاغ فوراً عن أي مشكلة.
- وضع خطة واضحة للطوارئ وتدريب من يلزم عليها والتأكد من جاهزيتها من حين لآخر.
- إبعاد الصناعات الخطيرة عن الأماكن السكنية قدر الإمكان، وعدم تخزين كميات كبيرة من المواد الخطرة دون الحاجة لها.
- دراسة خصائص المواد الكيميائية التي نتعامل معها فذلك يفيدنا في فهم طرق العلاج الأولية وفهم آلية عمل إجراءات الطوارئ (فمثلاً غاز MIC سريع الاحتراق).
- تشكيل لجان خاصة بالتفتيش على جاهزية المصانع سواء أكانت هذه اللجان من موظفي المصانع نفسها أم من خارجها (قد نقع في الخطأ ونستمر فيه دون إدراكنا له، قد يرى المراقبون ما لا يراه العمال أنفسهم).
- عدم إهمال الحوادث الصغيرة والتحقيق فيها للاستفادة منها (فقد جرت عدّة حوادث صغيرة في مصنع بوبال قبل عام 1984 وتوفي أحد العمال في إحدى تلك الحوادث).