خطر يهدّد أي محطة وقود … كيف شبّت الحرائق في مستودع بنسفيلد؟
الزمان: 11 كانون الأول 2005.
المكان: مستودع بنسفيلد للوقود ويبعد 40 كيلومتراً عن العاصمة البريطانية لندن. يُخزّن المستودع عدّة أنواع من الوقود.
الخطأ: طوفان أحد خزانات الوقود أثناء تعبئته دون إدراك أي من العمّال لذلك.
النتيجة: انفجارات وحرائق أدّت لجرح 43 شخصاً وتدمير 23 خزاناً كبيراً بما فيها من وقود؛ لا يمكن تجاهل التلوّث الذي أصاب البيئة المحيطة بالمستودع.
لم تعرف القارة الاوروبية حرائقاً بهذا الحجم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى ذلك اليوم. تُقدّر التكاليف الإجمالية لتبعات الحادثة بما يقارب 1 مليار جنيه إسترليني.
1 ■ لمحة عن المستودع:
تم افتتاح مستودع بنسفيلد للوقود عام 1968 بالقرب من بلدة همل همبستيد. يضمّ المستودع عدداً من خزانات الوقود.
يستقبل المستودع مخزونه من الوقود عبر شبكة من الأنابيب الأرضية؛ وكان خامس أكبر مستودع للمنتجات البترولية من بين 108 مستودعات في المملكة المتحدة.
وكمثال عن أهمية مستودع بنسفيلد، يكفي معرفة أن نحو 10 ملايين ليتر من الوقود كانت تُنقل يومياً من المستودع إلى مطار هيثرو اللندني عبر الأنابيب الأرضية، وقد أعيد ضخ الوقود إلى المطار بعد عامين من الحادثة.
بدأت مجريات الحادثة بطوفان الوقود من أحد الخزانات التي تديرها شركة Hertfordshire Oil Storage Limited وهي إحدى ثلاثة شركات مسؤولة عن إدارة المستودع في ذلك الوقت.
في عام 2010، صدر حكم قضائي يُلزم خمس شركات بدفع مبالغ مختلفة يصل مجموعها لنحو 10 ملايين جنيه إسترليني. تعدّ هذه المبالغ ضئيلة جداُ إذا ما قُورنت مع مجمل الأضرار.
2 ■ مجريات الحادثة:
اليوم السابق للحادثة:
بدأ الخزان 912 باستقبال شحنة وقود خالي من الرصاص، كان ذلك بحدود الساعة السابعة مساءً.
عند بدء التعبئة، أظهرت سجلات الخزان 912 احتوائه على مليون ليتر تقريباً، وبإمكانه استقبال نحو خمسة ملايين ليتر إضافية، علماً أن كمية الشحنة الواردة تتجاوز 8 ملايين من الليترات.
صباح يوم الحادثة:
03:05 | ثبات قراءة المقياس الأوتوماتيكي لمستوى الوقود في الخزان 912 على مستوى الثلثين، دون إدراك أي من العمال، ومنذ ذلك الوقت استمرت درجة حرارة الخزان في الارتفاع مع استمرار التعبئة. |
05:37 | بدء طوفان الوقود من فتحات التنفيس أعلى الخزان. بعد ذاك بقليل، أظهرت مراجعة كاميرات المراقبة بدء تحرّك غمامة بخار الوقود في حوض العزل المشترك بين الخزان 912 وخزانين آخرين، بلغ ارتفاع غمامة بخار الوقود نحو 1 متر. |
05:46 | بدء غمامة بخار الوقود بالخروج من حوض العزل، وبلغ ارتفاعها نحو 2 متر. استمرّت الغمامة في التوسّع إلى أن وصل قطرها لنحو 360 متراً. لاحظ بعض سائقي الشاحنات هذه الغمامة، وقاموا بإبلاغ عمّال المستودع. |
05:59 | قام أحد العمّال بفتح صمّام للخزان 911 معتقداً أن المشكلة تعود لهذا الخزان. |
06:01 | تم قرع جرس الإنذار من الحرائق، وعلى الفور وقع الانفجار الأول والذي كان الأقوى. حينها كان قد خرج أكثر من 250 ألف ليتر من الخزان 912. نجم عن الانفجار الأول هزة أرضية بشدّة 2.4 ريختر. |
بعد خمسة أيام: نجح رجال الإطفاء في إخماد الحرائق.
3 ■ لماذا طاف الخزان 912؟
تُمّ تجهيز الخزان 912 بجهازين منفصلين للتحكّم بمستوى التعبئة، الجهاز الأول عبارة عن مقياس أوتوماتيكي للمستوى أما الجهاز الثاني فهو قاطع يعمل على إيقاف التعبئة تلقائياً عند الوصول إلى مستوى مرتفع جداً من الوقود.
خلال التعبئة الأخيرة للخزان، حدثت مشكلة في المقياس الأوتوماتيكي للمستوى أما القاطع فلم يكن يعمل بشكل صحيح. وبالتالي لم يتسنّى لعمّال غرفة التحكّم معرفة حالة الخزان قبل أن يبدأ بالطوفان.
والآن بعض التفاصيل حول أسباب فشل الجهازين:
a – المقياس الأوتوماتيكي للمستوى:
لم تكن المرّة الأولى التي يتوقف فيها هذا المقياس عن العمل، فقد توقف 14 مرة منذ انتهاء صيانته قبل نحو 3 أشهر من الحادثة. لم يتم دائماً استدعاء شركة Motherwell المسؤولة عن صيانة المقياس بل عمد العمّال أحياناً إلى التحايل على العطل.
تكرّر العطل لدرجة أن المشرفين تجاهلوا تسجيله أحياناً في تقارير عملهم. لم يتمكن عمّال الصيانة من معرفة السبب الحقيقي للعطل.
أظهرت التحقيقات بعض الملاحظات حول نظام الأمان الذي كان متبعاً، ومن هذه الملاحظات:
- استخدام حاسوب واحد مع شاشة عرض واحدة فقط لإظهار بيانات المقاييس الأوتوماتيكية لمستوى عدد من خزانات الوقود. يسبّب هذا الأمر بعض الإرباك وخصوصاً لعدم وجود خاصيّة مراجعة البيانات.
يظهر على شاشة العرض زر طوارئ لإغلاق الصمامات الجانبية للخزانات دون أن يكن ذلك مطبّقاً على أرض الواقع؛ الغريب أنّ بعض العمال لا يعرفون أنّ هذا الزر غير فعّال.
- إمكانية تغيير الباراميترات الخاصة بنظام الإنذار متاحة لكل عمال غرفة التحكّم؛ لم تظهر التحقيقات أي دليل على خطأ من هذا النوع.
b – القاطع:
في تموز من عام 2004، تم تجهيز الخزان 912 بقاطع جديد من صناعة شركة TAV. يجب اختبار القاطع دورياً.
تطفو صفيحة القاطع على سطح الوقود، سيؤدي الارتفاع الشديد لمستوى الوقود إلى تشغيل دارة كهربائية مهمتها إيقاف ضخ الوقود إلى الخزان.
ولكن لماذا لم يعمل القاطع في يوم الحادثة؟ يعود السبب إلى خطأ في تموضع ذراع القاطع. هناك ثلاثة وضعيات ممكنة لذراع القاطع:
الذراع أفقي: عند التشغيل.
الذراع إلى أعلى: عند اختبار جاهزية القاطع للعمل في حالة الارتفاع الشديد لمستوى الوقود.
الذراع إلى أسفل: عند اختبار جاهزية القاطع للعمل في حالة الانخفاض الشديد لمستوى الوقود (ولم يكن ذلك مهماً في حالة الخزان 912 إذ تم تركيب القاطع للعمل في حالة الارتفاع الشديد للمستوى).
للحفاظ على الوضعية الأفقية للذراع لا بد من تركيب قفل لمنع الحركة، أظهرت التحقيقات أن أحداً من عمال الصيانة لم يكن على دراية بآلية عمل القاطع وبالتالي لم يكن القفل مركباً مما سمح بانخفاض الذراع إلى الأسفل وبالتالي فشل القاطع.
من المستغرب أن شركة TAV لم تقدّم معلومات كافية حول آلية عمل القاطع عند تركيبه أول مرة عام 2004. لاحقاً تم تغريم الشركة بمبلغ ألف جنيه إسترليني فقط لأنها كانت مقصّرة في إجراءات الأمان تجاه أشخاصاً لا يتبعون لها.
بعد الحادثة، عدّلت شركة TAV في تصميم القواطع فوضعت سناً يمنع انزلاق الذراع إلى الأسفل.
4 ■ الانفجار الأول:
وقع الانفجار الأول في غمامة بخار الوقود المتشكلة على مستوى الأرض. تشكلت هذه الغمامة بسبب طوفان الوقود من الخزان 912 عند استمرار الضخ فيه.
يعود السبب الرئيسي لتشكّل رذاذ الوقود إلى طريقة انسكاب الوقود على الأرض.
تهدف صفيحة الانحراف الموجودة أعلى الخزان إلى جعل ماء مرشّات التبريد ينسال على جدران الخزان الخارجية، عملياً لم توجّه الصفيحة كل الوقود الفائض نحو جدران الخزان.
أما عارضة الرياح فقد صُمِّمت على شكل إطار ملتحم بالمحيط الخارجي للخزان، وتهدف إلى تقوية الخزان بوجه قوة الرياح. غيّرت هذه العارضة حالة باقي الوقود الفائض من السيلان على الجدران إلى السقوط في الهواء باتجاه الأرض. وبسبب تناثر الوقود فقد ازداد تبخر بعض مكوّنات الوقود سهلة التطاير كالبوتانات.
أظهرت مراجعة كاميرات المراقبة بدء تحرّك غمامة بخار الوقود داخل حوض العزل المشترك بين الخزان 912 وخزانين آخرين. استمرّت الغمامة في التوسّع إلى أن وصل قطرها لنحو 360 متراً. لُوحِظت الغمامة من قبل بعض الأشخاص من خارج موقع الحدث إضافة لبعض سائقي الشاحنات وقاموا بتنبيه عمّال المستودع.
قام أحد العمّال بفتح أحد صمامات الخزان 911 معتقداً أن المشكلة تعود لهذا الخزان. وما إن قُرع جرس الإنذار من الحرائق حتّى وقع الانفجار الأول والذي كان الأقوى مقارنة مع الانفجارات التالية. حينها كان قد خرج أكثر من 250 ألف ليتر من الخزان 912.
مصدر الشرارة الأولى:
هناك عدّة مصادر محتملة لشرارة الانفجار الأوّل، ومن أهم الاحتمالات نذكر:
- مضخة إطفاء الحرائق التي بدأت بالعمل فور قرع جرس الإنذار.
- مولّدة كهرباء احتياطية قريبة.
- محرّك إحدى السيارات.
5 ■ الحرائق وتلوّث الهواء:
بلغت كمية الوقود المحترقة نحو 105 ملايين ليتراً.
تمكّن رجال الإطفاء من إخماد الحرائق بعد خمسة أيام من الحادثة، ولم يكن عملهم سهلاً بسبب الخشية من وقوع انفجارات جديدة في خزانات الوقود.
شارك في عمليات الإخماد نحو ألف رجل إطفاء، واستعملوا ما يقارب 800 ألف ليتر من مركز الرغوة المناسبة، إضافة لـ 55 مليون ليتر من المياه، وقد أُعيد استخدام جزء من هذه المياه في عمليات الإخماد.
تمّ إدخال 244 شخصاً إلى المشافي، ومعظمهم من رجال الإطفاء والإسعاف. التُقِطت الصورة الفضائية المجاورة بعد ساعات من الحادثة، وتظهر فيها سحب الدخان جنوب المستودع المنكوب.
من الواضح مدى التلوث الذي أصاب العاصمة لندن. فعلى سبيل المثال، تُقدّر كمية الجسيمات PM10 المنطلقة إلى الجو بنحو 8 آلاف طن.
ملاحظة: PM اختصار لـ “Particulate Matter” بمعنى “المواد الدقيقة”، أما الرقم 10 فيعني أن أقطار الجسيمات لا تتجاوز 10 ميكرومتر، للجسيمات PM10 قدرة على اختراق الرئتين.
6 ■ أحواض العزل … لم تكن كافية:
يتم عادة إنشاء خزانات الوقود ضمن أحواض عزل بهدف حماية البيئة المحيطة من أي وقود متسرّب. يقع الخزان 912 (الذي وقع الانفجار الأول فيه) مع خزانين آخرين ضمن نفس حوض العزل.
أظهرت التحقيقات خروج كميات كبيرة من الوقود الغير محترق ومن مواد الإطفاء إلى خارج بعض أحواض العزل، ولم تكن هناك وسائل حماية أخرى لاحتواء المواد المتسرّبة.
لم تتأثر المياه السطحية والجوفية كثيراً بالمواد المتسرّبة، ولم تصل السكّان أي مياه شرب خارجة عن المواصفات المقبولة؛ ومع ذلك فقد عُوقِبت عدّة شركات بسبب خرقها لقوانين المياه.
علينا الاستفادة من الأخطاء التي أدّت لخروج المواد الملوّثة من أحواض العزل. لم تكن المشكلة بقوة خرسانات الأحواض، فما هي مصادر التسرّب؟
a ● فواصل الخرسانة:
تهدف فواصل الخرسانة إلى حماية الخرسانة من آثار التمدّد والتقلص، ويتم ملء هذه الفواصل بمواد عازلة.
نجحت بعض أحواض العزل في مهمتها بسبب احتواء مفاصل خرساناتها على موانع تسرّب مقاومة للاحتراق، أما أحواض العزل الفاشلة فلم تحوي مفاصلها أصلاً على موانع تسرّب ولم تصمد المواد المالئة في وجه الحرائق.
b ● الأنابيب:
لعبت الأنابيب دوراً في تسرّب الوقود لثلاثة أسباب. أولاً: التمدّد الحراري للأنابيب والذي سبّب تهدّم أجزاء من الخرسانة المحيطة. ثانياً: انثقاب بعض الأنابيب خارج أحواض العزل. ثالثأ: عدم كفاية المواد المالئة داخل فتحات دخول الأنابيب في أحواض العزل.
c ● فتحات براغي الشدّ:
بالعودة إلى مرحلة بناء أحواض العزل، فقد استُعملت براغي للشدّ عند صبّ الخرسانة. طبعاً مُلِئت الفتحات التي خلّفتها تلك البراغي بمواد عازلة ولكن دون أن تصمد بوجه الحرائق.
تُظهر الصور التالية بعضاً من مصادر التسرّب:
7 ■ ماذا نتعلّم من هذه الحادثة؟
- ضرورة فهم آلية عمل الأجهزة؛ لم يكن أحد من العمّال على دراية بمبدأ عمل القاطع التلقائي للتعبئة.
- قد يغشّنا وجود أكثر من وسيلة أمان؛ ربما اطمأن العمال لوجود القاطع التلقائي للتعبئة ممّا قلّل الاعتماد على المقياس الأوتوماتيكي للمستوى.
- لا يقتصر عمل كاميرات المراقبة على الناحية الأمنية إذ يجب الاستفادة منها في مراقبة الأخطاء التشغيلية. لم ينجح مراقبو الكاميرات في ملاحظة طوفان الخزان 912 ولا حتّى في رؤية غمامة بخار الوقود.
- أهمية توثيق كل المشاكل التي تمر معنا.
- أهمية الصيانة الدائمة والواعية؛ يدلّ تكرار نفس العطل على عدم إدراك عمال الصيانة لجوهر العطل.
- تفادي مصادر الشرارات عند تسرّب أي غاز (كالغاز المنزلي)؛ كثير من الكوارث بدأت بماس كهربائي أو سيجارة غير منطفأة.