الحبر العربي: مقدمة

الحبر العربي: مقدمة

الحبرُ لغة النفسِ أو المداد الذي يُكتبُ به، وموضعه “المحبرة”، وتحبير الخطّ تحسينه وتزيينه، والحبر اصطلاحاً معلقات غروية في وسطٍ سائل أو لزج له القدرة على الالتصاق، يستعمل الحبر في الكتابة والرسم والطباعة، أنواعه كثيرة وألوانه لا تحصى.

يرجُع استخدام الحبر في الكتابة إلى أكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، ويُعدُّ المصريون والصينيون من أوائل الشعوب التي استعملت الحبر، وكانوا يصنعونه من معلقات مواد طبيعية مختلفة كالفحم والسناج “سخام المصابيح” وغيره محلولاً بالماء والصمغ، والفحم كما هو معلوم مقاوم لعوامل التخريب الطبيعية كالنور والرطوبة والهواء وبالتالي فقد أمكن حفظ كتاباتٍ كثيرةً على مرّ الزمن.

لا يُعرف بالضبط تاريخ ابتكار الحبر الثابت الحاوي أملاح الحديد غير أنه استُخِدمَ في العصور الوسطى، الأمر الذي أبقى كثيراً من الوثائق القديمة، وقد استخدم الزعفران بعد حله في آح البيض في العصور الماضية بدل الفحم لإضفاء لون ذهبي على الحبر الملون، واستخدم كذلك ثمر التوت وزيت بزر الكتان والكحل والعفص وثمر البلوط لصنع أحبار ملونة، وثمة حبر ملون آخر صُنِعَ من الحشرات القرمزية المجففة بلونٍ أصفر ضارب إلى الحمرة وشاع استعماله في القرون المتأخرة، وتطورت صناعة الأحبار تطوراً كبيراً بعد التوصل لابتكار أول صباغ صنعي سنة 1856، وتنتج مصانع الحبر اليوم آلاف الأنواع من الأحبار المختلفة.

مكونات الحبر الأساسية:

تشترك الأحبار الزيتية أو المائية بالمكونات الرئيسة التالية:

1. المعلقات الملونة: وهي المعلقات التي تمنح الحبر لونه، منها معلقات معدنية من فلزات طبيعية أو تركيبية كالأكاسيد، ومنها معلقات ذات منشأ عضوي، ويشترط فيها كلها النقاوة والنعومة لضمان صفاء اللون وعدم ترك رواسب.

2. وسط الانتشار: وهو المائع الذي يحوي المعلقات ويحافظ على نداوتها، ولعل الماء أكثرها شيوعاً كما هي حال أحبار الكتابة والطلاء المائي، وقد يكون الوسط زيتاً قابلاً للجفاف كما في أكثر أحبار الطباعة والطلاء الزيتي وفي بعض أنواع الأقلام، وقد يكون غولياً في بعض أقلام الكتابة الملونة وأقلام اللباد، ويشترط في وسط الانتشار إمكانية تجانسه مع المعلقات وجميع الإضافات التي تدخل في تركيب الحبر، وقابليته للجفاف بالتبخر أو التأكسد من دون أن يترك أثراً يضر بمادة الكتابة سواءً أكان ورقاً أم جلداً أم…، واحتماله شروط الخزن دون فساد.

3. المواد الرابطة: وترتبط بخواص مكونات الحبر، فالحبر الزيتي لا يحتاج لمواد رابطة لتأكسد عجينته بملامسة الهواء وتشكيلها طبقةً رقيقةً تحبس المكونات الغروية، أما الأحبار المائية فلا يبقى ما يربطها بسطح مادة الكتابة بعد تبخر الماء إلا وجود إضافات رابطة كالصمغ أو الغراء أو الراتنج تلصقها بالورق.

4. المواد المساعدة: يحتاج كل نوعٍ من الحبر لمواد مساعدة تحسن أداءه، مثل: زيادة لزوجته أو منع ترسب مكوناته، تسريع جفافه أو منعه، تنشيط أكسدته بالهواء، منح الحبر بعضاً من البريق أو اللمعان، تخليصه من الشحنات الكهربائية الساكنة كما في الطباعة على اللدائن أو غير ذلك.

أحبار الكتابة:

يجب أن تتوفر في حبر الكتابة مواصفات محددة بأن يترك أثراً واضحاً ودائماً فلا يبهت لتعرضه للضوء أو يُمحى إذا تعرّض للرطوبة، وأن يسيل من القلم بسهولة ويجف بسرعة ويعطي طبقةً رقيقةً لدنة مقاومةً للتكسر بعد جفافه، وألا يترك رواسب تعوق جريانه، ولا يحتوي على مواد تُفسد القلم أو الورق.

إنّ كثيراً من أحبار الكتابة الحديثة محاليل لأصبغة مائية، وأغلبها أحبار غير ثابتة تفسد عند تعرضها للضوء أو تُمحى إذا تعرضت للرطوبة، أما أحبار الكتابة الثابتة الحديثة فغالباً ما تحوي كبريتات الحديد “الزاج الأخضر” وحمض العفص Gallic Acid، وتتكتل هذه المكونات مجتمعةً بعد جفاف الحبر على الورق لتشكل راسباً مقاوماً للماء والضوء، غير أنه باهت اللون يكاد لا يُرى عند الكتابة، ويتكاثف لدى تعرضه للهواء لفترةٍ طويلة فيسودّ تدريجياً، لذا يعمد صُناع الحبر لإضافة صباغٍ أسود أو أزرق غامق إلى لمركب السابق ليتمكن الكاتب من رؤية ما يكتب، وأهم مواصفات هذا الحبر أنه لا يبهت ولا ينحل بالماء ولا يمكن محوه، غير أن ارتفاع مستوى الحموضة في محتوياته قد يتسبب في تلف الورق أو سطوح المواد الأخرى التي نكتب عليها.

شهدت أربعينات القرن العشرين تطوراً كبيراً في أحبار الكتابة نتيجةَ تطوير الكثير من وسائل الكتابة الحديثة، مثل أقلام الحبر الجافة ذات الرأس الكروي وأقلام اللباد، فالحبر المستعمل في الأقلام الجافة ذات الرأس الكروي معجون من أصبغةٍ وزيوتٍ وراتنج، ولا يمتصه الورق كالحبر السائل، غير أنه مقاوم للمحو، أما الأقلام اللبادية أو ذوات الرأس الدقيق فأحبارها سائلة ومتنوعة تتألف غالباً من أصبغة وماء أو مادة كيماوية عضوية مثل: بروبيلين غليكول Propylene glycol، الغول البروبيلي Propyl alcohol، التولوينToluene ، ايترات الغليكول Glyco ethers ، وتحوي معظم هذه الأحبار مركبات راتنجية ومواد حافظة أو مرطبة.

الحبر العربي الأسود:

ينفرد الحبر العربي بمواصفاتٍ خاصة تتفق مع طبيعة الخط العربي ومواصفات الورق المستعمل في الكتابة، وغالباً ما يتكون من معلقات غروية سوداء في وسط انتشار مائي ومواد رابطة ومحسنات، وأهم المعلقات الغروية هباب الفحم والسناج “السخام” وعفصات الحديدي، وكان يستحضر الخطاطون هباب الفحم بجمعه على سطحٍ أملسٍ كالزجاج فوق مصباحٍ لحرق الزيت، أو يضعون كمية من الشحوم والدهون في جرةٍ فخارية محكمة الإغلاق ويتركونها في فرنٍ شهوراً فتتفحم محتوياتها، أما اليوم فتقدم الصناعة الكيماوية أنواعاً من الهباب غاية في النقاوة والنعومة.

أما عفصات الحديدي فكان يُحضرها الخطاطون من غلي الزاج الأخضر “كبريتات الحديدي” وحمض العفص، وهو حمض عضوي ضعيف موجود في جوزة العفص وأوراق الشاي، أو حمض الدبغ “حمض التانيك” الموجود في تدرنات شجر البلوط والصفصاف وقشوره، أو كليهما معاً.

أما أهم المواد الرابطة والرافعة للزوجة الحبر العربي فهو الصمغ العربي لقابليته الانحلال بالماء، وشحنته السالبة وقوة ربطه، وبقائه ليناً بعد الجفاف ومقاومته للتكسر، وخموله الكيماوي، وثباته لعوامل الطبيعة، وانخفاض درجة لمعانه عند الجفاف.

يضيف صناع الحبر العربي مواد أخرى مساعدة تُحَسِن من صفاته، ويحتفظ كل صانع أحبار بأسرار تركيبه بحسب تجاربه الخاصة، الأمر الذي يميز أحبارهم بعضها عن بعض، ومن أهم تلك الإضافات السكر لزيادة لزوجة الحبر، وذرور الغضار الناعم لإضفاء اللون البني المشوب بالحمرة والتخفيف من زرقة الحبر، والشبة التي تصلح مادةً حافظة، وأصفر الزرنيخ “كبريت الصوديوم” المضاد للأكسدة ومانع التعفن، والكافور لتطييب الرائحة، والعسل لزيادة لزوجة الحبر وتطريته، والصبر والملح وغير ذلك.

أحبار الرسم:

يعد الحبر الهندي أو الصيني  Indian ink أكثرها شيوعاً، ونوعاً نقياً من الأحبار القديمة، ويستعمل في التصوير والرسم والكتابة، ويحوي صباغاً من الفحم الأسود أو السخام وذروراً من هباب الفحم في وسط مائي من محلول الصمغ والغراء، أما الحبر الهندي المقاوم للماء فأساسه محلول اللك Shellac والبورق Borax والنشادر Ammonia في الماء، في حين يماثل الحبر الهندي الملون الحديث في تركيبه ما سبق غير أنه يحوي صبغاتٍ معدنية مختلفة بدلاً من الفحم.

أحبار الطباعة:

كانت أوربة مهد أول حبر مخصص  للطباعة، وقد تم تطويره في القرن الخامس عشر، وكان يتألف من مسحوق الفحم الأسود ممزوجاً بالبرنيق “الورنيش” الناتج عن طبخ زيت بزر الكتان مع راتنج طبيعي.

ويفترض في أحبار الطباعة الحديثة أن تستجيب لمتطلباتٍ كثيرة لا تتوفر في أحبار الكتابة، وهي كثيرة التنوع من حيث تركيبها ومكوناتها لتوائم طرائق الطباعة المعمول بها، إذ يتوقف اختيار نوع الحبر على نوع آلة الطباعة وسرعتها، كما يتوجب أن يكون حبر الطباعة مناسباً لنوعية السطوح المختلفة المراد طباعتها، كالورق والمطاط والقماش والمعدن والخشب واللدائن، وأن تفي تلك الأحبار بالغرض المطلوب منها، فالحبر المطلوب للإعلانات اللماعة الملونة مثلاً يختلف تماماً عن الحبر المستعمل في طباعة صفحة كتاب، كذلك تختلف مدة دوام الحبر ومقاومته للعوامل المختلفة طوال الاستخدام.

إنّ معظم أحبار الطباعة اليوم سوائل لزجة أو على شكل معاجين تحوي صبغات صنعية ومواد رابطة ومذيبات ومواد أخرى تساعد على جفافها، أما أهم خواصها فهو ضرورة بقائها رطبة ما دامت على المطبعة (وقد يدوم ذلك بضع ساعات)، وأن تجف بسرعة بعد الطبع.

يجف الحبر بأساليب مختلفة، ويمكننا التحكم بسرعة جفافه لدرجةٍ كبيرة بإضافات من مواد معينة أو بمعالجة المطبوعات معالجة خاصة، فقد تجف بعض الأحبار بالأكسدة، وهو السبب في تسخين البرنيق في أحبار الطباعة أصلاً، إذ تُسرَّع الحرارة من تفاعلات أكسدة زيت بزر الكتان جزئياً وتترك للهواء إنجاز العمل بسرعة، أما الأحبار الحديثة فتضاف إليها مجففات كيماوية تحتوي على الرصاص غالباً أو الكوبالت والغاية منها تسريع عملية الأكسدة.

وقد تجف بعض الأحبار بامتصاص المادة المطبوعة، والحبر المستخدم في طباعة الجرائد خير مثالٍ على ذلك، وفي حالات أخرى يجف الحبر بتبخر المادة المميعة له لتترك راسباً صلباً على شكل رقاقة جافة، وغالباً ما يُستعمل لهذه الغاية وسط انتشارٍ منخفض درجة الغليان يتبخر بدرجة الحرارة العادية، غير أن الأسلوب الأكثر شيوعاً هو تمرير السطح المطبوع على مصدرٍ حراري مكشوف، وقد يستعمل نفثٌ من بخار الماء لتجفيف أحبار بعينها تحوي على راتنجات تبقى منحلة ما لم تصبها نداوة، وحين يمتص الحبر الماء يتكاثف ليشكل مادة صلبة في ظاهره.

الحبر المغنطيسي:

يحتوي هذا الحبر على مسحوق أكسيد الحديد، ويستعمل في الطباعة لأغراضٍ معينة، ومنها على سبيل المثال طبع أرقام المودعين على دفاتر حساباتهم في المصارف الكبيرة للتحقق منها في آلاتٍ مؤتمتة بدلاً عن فحصها يدوياً.

حبر النسخ أو الحبر السري:

وهو الحبر المستعمل في الكتابات السرية والرسائل المعماة، ويكون غير ظاهرٍ للعيان ما لم يعالج بوسائل خاصة، إذ لا يمكننا قراءة رسالة مكتوبة بعصير الليمون أو الحليب إلا بعد تعريضها للحرارة فتتحول الكتابة إلى اللون البني، أما الكتابة بمحلول كلور الكوبالت فتتحول عند تعرضها للحرارة إلى اللون الأزرق، وثمة أحبار سرية مطورة لا يمكن قراءتها إلا بمعالجتها بمواد كيماوية خاصة أو بالاستعانة بالأشعة فوق البنفسجية.

الأحبار الخاصة:

هناك أحبار صممت للكتابة أو الطباعة على سطوح مواد أخرى غير الورق، مثل الحبر المستعمل لطباعة الأغلفة اللدائنية، أو الحبر المرن المستعمل على الرقاقات اللدائنية الشفافة، وهناك أحبار خاصة للكتابة على الرخام والمرمر أو الزجاج وما شابهها، ومنها ما هو معد للاستعمال في محال تنظيف الملابس والمصابغ ويحوي غالباً نترات الفضة التي تتغلغل في القماش وتترك راسباً معدنياً أسود ثابتاً عند تعرضه للضوء، وتصنع الأحبار المعدنية من مسحوق معدني في المحلول المائي للصمغ العربي.

_____

زيت الكتان المغلي: يتم تسخين زيت بذور الكتان بوجود بعض الوسطاء مثل ثاني أكسيد المنغنيز MnO2، أو أكسيد الرصاص الأحمر Pb3O4 أو خلات الكوبالت (CH3COO)2Co فيتماثر ويتأكسد هذا الزيت فيصبح قادراً على الجفاف خلال أربع إلى خمس ساعات ما يؤهله للدخول في صناعة الدهانات، في حين يتم تحضيره للطباعة بدون استخدام الوسطاء وبمعزلً عن الهواء بجوٍ من ثاني أكسيد الفحم CO2.

الزاج الأخضر: كبريتات الحديدي خماسية الماء FeSO4. 5H2O

حمض العفص: حمض عضوي ضعيف، اسمه العلمي حمض الغاليك Gallic Acid، ويمكننا استخلاصه من مصدرين رئيسين: العفص، ومواد الدباغة، أما صيغته الكيماوية فهي:

حمض العفص

ونجد هذا الحمض عادة بشكله الحر في عفص البلوط وأوراق الشاي، وعفص البـلوط هذا ما هو إلا تضخمات في شجر البلوط تتكون محل الجروح التي تسببها الحشرات.

ويمكن لحمض العفص أن يتفاعل مع نفسه ليعطي استراً عفصياً بحذف جزيئة ماء:

C6H2(OH)3COO – C6H2(OH)2COOH